يحيى الكندري

يحيى الكندري

الخميس، 6 يناير 2022

الارتياض في خزانة الفيَّاض

 

الأستاذ الـمُبَجَّل، علي بن عبدالله الفيَّاض (ولد بقرية العريش 1376هـ=1957م)، بحَّاثة مُنَقِّب، وشَّاعر أديب، قضى عمره في جمع تاريخ قطر ومصادره المحليَّة، حتى جمعَ فأوعى، وليس في قطر مكتبةٌ أو خزانة تبلغُ شَأْو خزانة كتبه في هذا الصدد، مع علمٍ وإنصافٍ وتواضع جَمّ، ومحبَّة لطلبة العلم والباحثين، وإيثارٍ بالمعلومة والوثيقة، إلى جانب كتبه ودراساته حول قطر ومأثورات أهلها التي زادت على الخمسين كتاباً، وقد أقمتُ عاماً بتمامه أتردد أثناء بحثي حول تاريخ الخيل العربية في قطر على مكتبته التي شرَّع أبوابها للدارسين، وصيَّرها لهم مورداً جموماً ومنهلاً صافياً، وقد أحببتُ أن أُدَوِّنَ في هذه المقالة انطباعي عن خزانته، مع طرفٍ من أفضاله وشهامته.

 

الأديب الشاعر علي بن عبدالله الفيَّاض في مكتبته

تقع مكتبة الأستاذ علي بن عبدالله الفيَّاض في مدينة الشمال، وقد رتَّب له بيتاً مستقلاً، في الدور الأرضي منه قاعتان، الأولى قاعة لتاريخ قطر وتراثها، والثانية للتاريخ والشعر الخليجي، أما الدور الأول فهو للكتب الشرعية وبعض المراجع والمجلات، وتقدّر مكتبته بحوالي عشرين ألف كتاب، وتجد في ثنايا المكتبة: مخطوطات مصورة، وملفات مصنَّفة لوثائق في شتى المواضيع القطرية، جمعها الفياض في رحلته الطويلة من الأهالي والرواة، والمؤسسات والهيئات، ومن أهمها مخطوطات الشعر الشعبي، بعضها كنانيش ومجاميع لشعراء متعددين، وبعضها دواوين لشعراء لم تنشر دواوينهم بعد، أو نشرت قطعة من دواوينهم، ولدى الأستاذ أشعار لهم لم تنشر بعد. وفي المكتبة جهاز تصوير وقَيِّمٌ يقوم بمساعدة الباحثين على تصوير ما يحتاجونه، وإني لم أر بعد أحداً مثل الفياض إلا قليلاً، يبحث لك عن مُرادك، ويعاونك، ويُمِدُّك، ويدلُّك، حتى يروي الظِّماء.

أثناء بحثي حول الخيل العربية في قطر، قررت أن أجرد دواوين الشعر القطري، لأبحث فيها عن أيِّ إشارة، وقد كانت مهمة شاقة، فالدواوين القطرية الشعبية والفصيحة المطبوعة كثيرةٌ جداً، والسر في ذلك هو تظافر ثلاثة باحثين أجلاء في نشرها لعقود، وهم الأساتذة: حمد حسن الفرحان النعيمي رحمه الله، وعلي بن عبدالله الفياض، وعلي بن شبيب المناعي، حفظهما الله. بدأت رحلتي مع الدواوين القطرية يوم أعارني وأهداني صديقي الكريم مشاري النملان مجموعة كبيرة منها، وبقيت عيونها ونوادرها، فتوجهت إلى الأستاذ الفياض، فناولني النسخة الخطية التامة من (ديوان الشاعر عبدالله بن صالح الخليفي)، وفي هذا المخطوط أشعارٌ لم تنشر في الطبعات السابقة من (ديوان الخليفي)، فأفدتُ منه كثيراً، ومما أطلعني عليه: مخطوط (ديوان الإشارة) لسعد بن علي المسند، الشهير بسعد الشاعر، ومخطوط (ديوان عبدالله بن عامر الفلاسي)، وفيه ما لم ينشر في طبعة الديوان الصادرة عن نادي تراث الإمارات، وقد عاش عبدالله بن عامر ردحاً من حياته في قطر، و(كناش أبو دناش الرميحي)، وغيرها، كما زوَّدني بوريقات دوَّنها عن الرواة، فيها أشعار عن الخيل لم تنشر، انتخبها لي من مجاميعه وأوراقه متفضلاً، وأعارني كل ديوان مطبوع احتجت إليه من مكتبته، وفيها كتب كثيرة نادرة.

 

مدخل مكتبة الفياض الزاخرة

وأطلعني الأستاذ الفياض متفضلاً على نوادر تاريخية قطرية، تتمثل في تدوينات وتواريخ لم تنشر بعد، مثل: (مدونة الشيخ محمد بن جاسم آل ثاني)، و(تاريخ الشيخ حسن الجابر)، وتعليقات الشيخ أحمد بن يوسف الجابر على كتاب (إمارة قطر العربية للشيباني)، وهي تعليقات نفيسة، أفدتُ منها كثيراً في بحثي. وتفضَّل الأستاذ الفيَّاض عليَّ فأخرج لي من جعبة نوادره بعض التسجيلات الصوتية النادرة، ومنها تسجيلات للشاعر (محمد بن جمعان)، فسمعتُ طرفاً منها، وقد عاش ابن جمعان زمناً في الكويت، ولم يُنشر له ديوانٌ بعد.

ولما رأى الأستاذ الكريم، والأديب المفضال، أن بحثي في مكتبته يطول، أكرمني مشكوراً وخصص لي زاوية في مكتبته، كان يستخدمها على الدوام صفيُّه ووديدهُ ورفيق دربه الأديب الشاعر علي بن شبيب المناعي، فلهما مني التقدير الزاخر، والتوقير الوافر، والحقُّ أنَّ الباحث الذي يرزق الجلوس في مكتبة الفيَّاض للمطالعة والبحث في القضايا الخليجية عامة والأدبية منها خاصة هو رجل ذو حظ عظيم، فالمراجع محتشدة، والأستاذ المفيد مقيم، والباحث مخدوم مكرم.

رعى اللهُ أوقاتَ السُّرورِ التي مَضَتْ * لُيَيْلاتِ صَفْوٍ عارياتِ الشَّوائِبِ

 

الأديب الشاعر علي بن شبيب المناعي في مكتبة الفياض

إنَّ الفياض الذي فاضت مكتبته بكل نفيس، سابقٌ في حَلْبَة النشر والطبع أيضاً، ومن أوائل كتبه سلسلة مهمة سمَّاها: (لآلىء قطرية)، تتضمن تراجم لشعراء شعبيين من قطر، مع نتف من أشعارهم، وقد ساعدت هذه السلسلة على التعريف بشعراء مغمورين كُثُر ونشر طرف من نتاجهم الأدبي، وفيهم من ليست له ترجمة إلا في هذه السلسلة، وهم كثر، كما أنه عمد إلى المكثرين منهم، فجمع أشعارهم من المخطوطات والوثائق والمنتخبات والرواة والجرائد، وطبع جملةً صالحة منها، مع دراسات وافية حول هؤلاء الشعراء، وسيرهم، نشر بعضها بالاستقلال، وبعضها الآخر بمشاركة أخيه وصَفِيّه الكريم الأديب علي بن شبيب المناعي، ومنها على سبيل المثال: (الموسوعة القطرية ج.1) على نمط (الموسوعة الكويتية) للسعيدان، و(ديوان إبراهيم الخليفي)، و(ديوان راشد بن سعد الكواري)، و(محمد بن عبدالوهاب الفيحاني حياته وشعره)، و(أيام الصبا .. ديوان محمد بن حسين السادة)، و(ديوان الشيلات القطرية)، و(عبدالله بن صالح الخليفي سيرته وديوانه)، و(من رواة التراث في قطر)، و(سعيد بن سالم البديد .. سيرته وديوانه وأعماله)، و(ديوان شعراء الفصحى في قطر)، و(ديوان ابن دلهم)، و(القول الجميل في المؤسس الجليل)، و(الأديب الشاعر حمد بن محسن االنعيمي حياته وشعره وأعماله)، و(من أفواه الرواة .. مأثورات من التراث الشعبي)، و(زهيريات الفياض)، و(فلسطين في وجدان شعراء قطر الشعبيين)، و(قطر في كتابات المؤرخ الكويتي سيف مرزوق الشملان)، وتحقيق كتاب (الجوهرة المضية بمختار الحكم والأشعار الأدبية) لابن درهم،  وغيرها من المؤلفات التي جاوزت الخمسين. ومن الطريف أن الأستاذين الفياض والمناعي طبعا في الثمانينيات أول ديوانٍ لهما بالاشتراك، ضم أشعارهما، أسمياه: (ترانيم الفجر)، مشابهين بذلك "الخالديين" الشاعرين الأخوين المحسنين اللذين عاشا في زمن الحمدانيين، والحقُّ أن أي باحثٍ في التاريخ والأدب يريد أن يبحث أو يستكشف شيئاً من تراث قطر ومأثورتها فلن يتمكن من ذلك دون الرجوع إلى ما جمعه ودونه "العَلِيَّان".

 

(العَلِيَّان) في شبابهما

 

 

ديوان (ترانيم الفجر)


 

الجزء الأول من (الموسوعة القطرية) ولم يصدر غيره

وما زال في جعبة هذين الرجلين الفذّين المخلصين، أعمالٌ أخرى ضخمة هي نتاج سنوات البحث والتنقيب الطوال، لم يكتب لها النشر بعد، وقد أكرمني أستاذنا الفياض بمطالعة بعضها والإفادة منها، إنَّ محبة العلم ونشره طغت على نفس الفياض فلم يستأثر بمسودات كتبه المعدّة للنشر، وكثيرٌ من الناس يُخفي الوثيقة والنادرة حتى ينشرها بنفسه قبل أي أحد، ومن تلك المراجع الباذخة، والتصانيف الزاخرة: (معجم أعلام قطر)، وهو معجم تراجم فخم، يضم الأمراء والوجهاء والأعيان، والشعراء والأدباء، وأرباب الغوص من نواخذة وطواويش ومشاهير البحارة، والأطباء والحرفيين، وبعض المغمورين، مع تحديد وفياتهم، وسرد سيرهم وأعمالهم، ونماذج من خطوطهم وصورهم، وهو عمل غير مسبوق، نسأل الله تعالى أن يُظهره للباحثين والمستفيدين.

حفظ الله الأستاذين الجليلين العَلِيَّيْن: علي بن عبدالله الفياض، وعلي بن شبيب المناعي، وأدام دارة الفياض وخزانته عامرةً بذوي الفهوم وطلاب العلوم، ولا حرمه أجر نهر العلم المتدفق الفيَّاضِ منذ عقود ..

 

من اليمين: كاتبه، ثم الأستاذ الفياض، ثم أخي المفضال مشاري بن علي النملان، في مجلس المحمود بمعيذر

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق