تمهيد
أسلّط الضوء هنا على إجازة نادرة، نُسب الشيخ الـمُجاز
بها إلى بلد الكويت في القرن (13هـ=19م)، زمن حاكمها الخامس الشيخ عبدالله الثاني،
والإجازة الحديثية من أندر صور الحياة العلمية في الكويت، وتكمن أهميتها أيضاً في
ندرة المعلومات حول الشيخ المجاز، وما تفيدنا
هذه الإجازة حول وجود شخصه ونزوله الكويت، ولم أعثر على سيرته في بداية الأمر، ثم
أوقفني عليها الشيخ الفاضل أحمد عبدالملك عاشور جزاه الله خيراً، إذ انتبه لخبره
عند الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، وإني أتقدم هنا بالشكر الوافر الجزيل، والثناء
العاطر الجميل، إلى أخي الجواد الشيخ عادل بن عبدالرحيم العوضي، ضاعف الله له
الأجور، فقد أكرمني بنسخة الإجازة الخطية، وأصلها محفوظ بالمكتبة الآصفية في الهند.
علماء الكويت والإجازة
تعدُّ الإجازة من طرق التحمل والرواية المعتبرة عند
المحدثين، وهي أنواع عندهم، ومنها: إجازةُ الـمُجاز، مثل أن يقول الشيخ أجزتُ لك
رواية ما أُجيز لي روايته، والعمل على جوازها[1]، وهي
ذات صورة الإجازة التي بين أيدينا، وعن أهمية الإجازة ونفعها يقول الحافظ أبو طاهر
السِّلَفِيُّ (ت576هـ=1180م): "هي ضرورية، لأنه قد تموت الرواة، ويُفقد
الحفّاظ الوُعاة، فيُحتاجَ إلى بقاء الإسناد، ولا طريق إلا الإجازة، فالإجازة فيها
نفع عظيم ورفد جسيم، إذ المقصود إحكام السنن المروية في الأحكام الشرعية وإحياء
الآثار؛ وسواء كان بالسماع أو القراءة أو المناولة أو الإجازة"[2].
والمشهورون الذين نالوا الإجازة من علماء الكويت قلة
قليلة، وهي بعد من تقاليد العلم ورسومه التي يبدو أنها لم تكن حاضرة في الحياة
العلمية الكويتية بشكل كبير، ومن الذين نالوا شرف الإجازة الحديثية على سبيل
المثال: الشيخ محمد النوري (ت1345هـ=1927م)، والد الشيخ عبدالله النوري[3]،
وقد نشأ في الموصل وتعلم ببغداد، وهما من حواضر العلم، والإجازة وتقاليد العلوم
بهما ذائعة، و(كناش إجازاته) محفوظ في مكتبة الكويت الوطنية[4]،
وممن نال الإجازة أيضاً: الشيخ العلامة عبدالله بن خلف الدحيان (ت1349هـ=1931هـ)
قاضي الكويت[5]،
وهو بعد صاحب رحلة في طلب العلم، وقرأ على علماء الزبير، وكانت له صلات ومراسلات
مع علماء نجد والأحساء، وتعد هذه الإجازة التي أنشرها هنا إحدى هذه الإجازات
الكويتية النادرة في القرن الثالث عشر الهجري، وهي من أندر صور الحياة العلمية في
الكويت.
الـمُجيز والـمُجاز
الشيخ الـمُجيز هو العلامة الفقيه عبدالحميد بن الحسن
الداغستاني، الشرواني ثم المكي، شيخ الشافعية، تعلم في بلده شروان، ثم رحل إلى
إسطنبول ومصر، وأخذ عن جماعة من العلماء، منهم: الشيخ برهان الدين الباجوري، شيخ
الأزهر، والشيخ مصطفى الوديني، ثم توطَّن مكَّة المكرمة، فدرَّس وصنَّف، وله (حواش
على تحفة المحتاج)، وكان يتقن العربية والفارسية والتركية، توفي رحمه الله عام
(1301هـ=1884م)[6].
أما الـمُجاز فنستفيد من وصف
الشيخ المجيز الذي ورد في الإجازة له عدة أمور:
1-
اسمه: "عبدالرحمن بن محمد".
2-
نسبه: "الزبيري"، والغالب أنه ينتسب إلى ذرية
سيدنا الزبير بن العوام رضي الله عنه.
3-
"الفارسي": نسبة إلى بلاد فارس، وربما يكون ولد بها، أو
منها أصل مقدم أسرته.
4-
"ثم البصري": أي أنه توطن البصرة بعد بلاد فارس.
5-
الأوصاف العلمية: "وَلَدِي، الورع، النبيه الفطن،
الشيخ.."، وهي تزكية تشهد له بالعلم والذكاء والديانة، وتدل على سبر حاله
وتوثق الصلة بين المجيز والمجاز، خاصة أنه نعته بالولدية.
6-
"نزيل الكويت": أي أنه ينزل الكويت ويسكنها في وقت
كتابة الإجازة (1299هـ=1882م).
7-
المكان والزمان: تاريخ الإجازة هو العام (1299هـ=1882م) أي
قبل وفاة الشيخ الـمُجيز بعامين، وفي هذا الوقت كان مقيماً بالبلد الحرام، فربما
يكون قد لقيه في الحج، وحاكم الكويت يومئذ هو الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر بن
عبدالله بن صباح بن جابر الصباح، المعروف بعبدالله الثاني (حكم 1866-1892م)، ويعد
خامس حكام الكويت من أسرة الصباح الكريمة.
8-
الإسناد: نعرف من خلال نص الإجازة التي بين أيدينا أن
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الفارسي يروي عن
شيخه الفقيه عبدالحميد بن الحسن الداغستاني المكي (ت1301هـ=1884م) إجازةً، عن شيخ
الأزهر العلامة إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري (ت1277هـ=1860م) إجازةً، عن الشيخ
حسن القويسني إجازةً، عن الشيخ داود القلعي إجازةً، عن الشيخ أحمد بن محمد بن علي
القلعاوي السحيمي (ت1178هـ=1765م) إجازة، عن الشيخ عبدالله بن محمد بن عامر
الشبراوي (ت1171هـ=1758م) إجازةً، ومرويات الشيخ الشبرواي بأسانيده عن شيوخه
مسطورة في (ثبت) مروياته، وهو مطبوع[7]،
وله نسخ خطية كثيرة.
وقد ذكره الشيخ يوسف بن
عيسى القناعي في (تاريخ الكويت) فقال: "الشيخ عبدالرحمن الفارسي: طلب العلم
في مكة ورجع إلى الكويت، وشرع في التعليم في النحو والفقه، وممن استفاد منه الشيخ
عبدالله بن خالد العدساني، وصار خطيباً في جامع الخليفة، ثم لم تطب له الإقامة في
الكويت فسافر عنها خمسين سنة متنقلاً في بلاد الله الواسعة، وأكثر إقامته في
كربلاء، وكان قد تزوج في العراق، ورزق ولداً، وعاد إلى الكويت بعد نصف قرن واستقام
خمس سنين حتى توفاه الله سنة (1360ه)، وله من العمر ما يقارب تسعين سنة"[8]، انتهى كلامه رحمه الله، أي
أن ولادته كانت تقريباً عام (1270هـ=1854م).
أما النسبة إلى الزبير بن العوام رضي الله عنه التي جاءت بها الإجازة، فهو المشهور من نسبه، وقد أفاد الشيخ عدنان بن سالم الرومي في كتابه (علماء الكويت) نسبه من أوراق كتبها له ابن أخيه شيخان بن أحمد بن محمد الفارسي، فيكون تمام اسمه: "عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن حسن بن محمود زين الدين القلعة"[9]، وأنه ينتسب إلى قريش[10].
ومن تلاميذه الذين
قرأوا عليه: الشيخ الفقيه العلامة محمد بن سليمان آل جراح، والشيخ عبدالله بن محمد
النوري، والشيخ عبداللطيف العدساني، ويعقوب خاجة، وعبدالله عبداللطيف العثمان[11].
وقد أعادتني إشارة الشيخ
يوسف بن عيسى رحمه الله لإقامة الفارسي زمناً بكربلاء إلى (ديوان) مخطوط أطلعني
عليه الأخ الكريم حازم حامد عبدالله النوري، وهو من تركة جدّه الشيخ عبدالله بن
محمد النوري رحمه الله، وعنوانه (حُصٌّ وجُمان من شعر عبدالرحمن)، وجلّه بخط الشيخ
عبدالله النوري، وبعضه بخط فهد اليوسف المنيس، وفيه مدائح وتعازٍ لبعض الشيوخ من
أسرة الصباح، ومنهم: الشيخ أحمد الجابر الصباح، والشيخ عبدالله الجابر الصباح، ومن
أهم الإشارات الكويتية في (الديوان) بيتان قالهما الشاعر يمتدح الملا صالح الملا
سكرتير حاكم الكويت ويطلب منه الإسراع باستخراج جواز سفر له [12]، فهل هذا الديوان هو ديوان
الشيخ عبدالرحمن الفارسي؟ أم أنه لشاعر آخر؟ ولا يمكننا الجزم بذلك حتى نعيد قراءة
(الديوان) محاولين المقارنة بشخصيته التي عرفنا طرفاً منها هنا، ولم أر من أشار
إلى هذا (الديوان) من قبل. وربما يصح ذلك إذا عرفنا أيضاً أن الشيخ عبدالله النوري
أحد تلاميذ الفارسي كما يقول الشيخ محمد بن سليمان الجراح رحمهم الله[13].
نص الإجازة
"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وَضَّح لنا سُبُل الرشاد، وجعل من
أَعْظَمِها سبيل الإسناد، إذ لولاهُ لقال من شاءَ ما شاء، والتبسَ الضلالةُ
بالهدى، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم إلى يوم
التناد، وبعد؛
فقد طلب مني – حُسْنَ ظَنٍّ فِـيَّ – وَلَدِي الورع النبيه الفطن، الشيخ عبدالرحمن بن محمد، الزبيري، الفارسي، ثم البصري، نزيل الكويت، أن أجيزه بكل ما تلقيته من مشايخي العظام، فأجبته تحسيناً لظنّه، فأجزتهُ بجميع ما في هذا (الثبت) الذي أجازني به شيخنا خاتمة المحققين، صاحب التآليف النافعة المشهورة في جميع الفنون المتداولة، الشيخ إبراهيم الباجوري الأزهري[14]، المجاز به من شيخه العلامة حسن القويسني، المجاز به من الشيخ داود القلعي، المجاز به من الشيخ أحمد السُحَيْمي[15]، المجاز به من صاحب هذا (الثبت) شيخ الإسلام والمسلمين عبدالله الشبراوي[16]، وبجميع ما يجوز لي وعني روايته، موصياً له بتقوى الله تعالى، وبالمراجعة عند التوقف، وأن لا ينساني من صالح دعواته.
كتبه أحقرُ العبيد، عبدالحميد، الداغستاني، الشرواني ثم
المكي، في سنة (1299) تسع وتسعين بعد ألف ومئتين، من هجرة سيد المخلوقين، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه أجمعين".
إجازة العلامة الداغستاني للشيخ عبدالرحمن بن محمد نزيل
الكويت (1299هـ)
نسخة المكتبة الآصفية - الهند
خاتمة
ختاماً فقد أفادتنا هذه الإجازة نصّاً جديداً يضيء زاوية
من زوايا الحياة العلمية في الكويت إبان القرن (13هـ=19م)، وأفادتنا طرفاً من سيرة
أحد علماء الكويت الذين لم تصلنا أنباؤهم بشكل كافٍ حسب اطلاعي، كما تفيد صلته
بالعلماء المجاورين في الحجاز، وقربه منهم، وتَوَثُّقِ علاقته بهم حتى نعته أحدهم
بالولدية، ووصفه بالنباهة والتقوى، وربما ظهرت لاحقاً مصادر تفيد المزيد حول سيرته
وأخباره، وكم في الزوايا من خبايا.
[1] - عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري الشهير بابن الصلاح، علوم
الحديث، تحقيق: نور الدين عتر، دمشق: دار الفكر، 1406هـ=1986م: 151-165.
[2] - محمد بن عبدالرحمن السخاوي، فتح المغيث في شرح ألفية الحديث،
تحقيق: عبدالكريم الخضير، محمد آل فهيد، ج.2 (الرياض: مكتبة دار المنهاج،
1426هـ=2005م): 398-399.
[3] - عدنان بن سالم الرومي، علماء
الكويت وأعلامها في ثلاثة قرون، الكويت: مكتبة المنار الإسلامية،
1420هـ=1999م: 135-144. عبدالعزيز سعود العويد، العالم العامل الفقيه الزاهد
الشيخ محمد النوري حياته وآثاره، الكويت: آثار للأعمال التاريخية،
1435هـ=2014م.
[4] - طالعته بنفسي عام (2012م).
[5] - طالع عنه بتوسع ما كتبه:
محمد ناصر العجمي، علامة الكويت الشيخ عبدالله الخلف الدحيان حياته ومراسلاته
العلمية وآثاره، الكويت: مركز البحوث والدراسات الكويتية، 1415هـ=1994م.
[6] - أسامة السيد محمود
الأزهري، جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر
الهجريين، ج.2، مصر: مكتبة الإسكندرية، 1440هـ=2019م: 31.
[7] - (ثبت الشبراوي) له نسخٌ خطية كثيرة، وطبع عن دار كشيدة عام
(2015م).
[8] - يوسف بن عيسى القناعي، صفحات من تاريخ
الكويت، مصر: دار سعد، 1365هـ=1946م: 48.
[9] - عدنان بن سالم الرومي، علماء
الكويت وأعلامها في ثلاثة قرون: 231.
[10] - عدنان بن سالم الرومي، علماء
الكويت وأعلامها في ثلاثة قرون: 231.
[11] - عدنان بن سالم الرومي، علماء
الكويت وأعلامها في ثلاثة قرون: 231.
[12] - حصٌّ وجُمان من شعر عبدالرحمن، مخطوط محفوظ
في مكتبة السيد حازم النوري بدولة الكويت: ق23.
[13] - عدنان بن سالم الرومي، علماء
الكويت وأعلامها في ثلاثة قرون: 309-311.
[14] - إبراهيم بن محمد بن أحمد
الباجوري، شيخ الجامع الأزهر، من فقهاء الشافعية، ولد بباجور من قرى المنوفية عام
(1198هـ=1784م)، وتعلم ودرَّس في الأزهر حتى تقلد مشيخته عام (1263هـ) حتى وفاته
عام (1277هـ=1860م). خير الدين الزركلي، الأعلام، ج.1: 71.
[15] - أحمد بن محمد بن علي
الحسني القلعاوي الشهير بالسحيمي، فقيه من أعيان الشافعية بمصر وصلحائهم، له
تصانيف في الفقه والتفسير والحديث، توفي عام (1178هـ=1765م). خير الدين الزركلي، الأعلام،
ج.1: 243.
[16] - عبدالله بن محمد بن عامر
الشبراوي، فقيه عالم شاعر، له تصانيف، تولى مشيخة الأزهر، ولد عام (1091هـ=1680م)،
وتوفي عام (1171هـ=1758م). خير الدين الزركلي، الأعلام، ج.4: 130.