هذه
ترجمةٌ نادرةٌ لعلمٍ نجديٍّ كان أحد العلماء المشهورين في نجد فترة القرن الحادي
عشر كما يصفه المؤرخ مصطفى بن فتح الله الحموي (ت١١٢٣هـ)، في موسوعته النفيسة (فوائد الارتحال ونتائج السفر في أخبار القرن الحادي عشر)، وقد سجّل لنا
الحموي هذه الترجمة عن مشاهدة ومعرفة فقال عن المترجم : "واجتمعت به
مرَّات".
ولندرة
هذه الترجمة تناولتها بالتعليق والشرح، وقارنت جديد ما أفادته ببعض كتابات
الباحثين السابقة فيما يتعلق بالحالة الدينية والعقائدية في نجد قبل بداية الدعوة
الإصلاحية، مع إثبات نصِّ الترجمة، وفي ذلك دليل جديد يعضّده ما قرره كثيرٌ من
الباحثين حول الحالة العقائدية في نجد قبل الدعوة الإصلاحية، وأنها كانت تعجّ
بالشركيات والتصوف، وتكمن أهمية هذا النص في أن من كتبه هو عالمٌ متصوف بخلاف ابن
غنام وابن بشر، اللذين يتهمهما بعض الباحثين بأنهما يهوّلان قضايا الشرك والتصوف
في نجد قبل بداية الدعوة الإصلاحية، بسبب موافقتهما للدعوة الإصلاحية.
•
نصّ الترجمة :
قال
مصطفى بن فتح الله الحموي (ت١١٢٣هـ) في (فوائد الارتحال ونتائج السفر في أخبار
القرن الحادي عشر) (ج٤-ص٤٤٥ ترجمة ١١٦٠) :
"عبدالله
بن نظام الدين، النجديُّ السكن، الفُرْسِي المولد، الأشتري، النقشبندي المشرب،
الشافعي المذهب.
أحد
مشايخ الطريقة، وأصحاب الدعوة، الملازمين للأذكار والرواتب، والشيوخ المشهورين
ببلاد نجد، له المنزلة العلية، والشيم المرضية، والأخلاق النبوية.
قدم
مكة مرات، آخرها سنة ثلاث عشرة ومائة وألف، وحصلت له العزة العظيمة عند شريف مكة،
ومن دونه من الأشراف الحسنيين بحيث أني رأيت بعض أكابرهم يتعاطى خدمته بنفسه،
وأقام مدة بمكة، واجتمعت به مرات.
وكان
في أغلب أحواله بالمراقبة، متمسكاً بدائرة رجال الغيب، والاستعانة بهم في كل وقت،
والتوجه إليهم حيث كانوا، لذلك تمّ له النَّفَسُ.
ثم
توفي بمكة لعلَّهُ سنة سبع عشرة بعد الألف ومائة، ودفن بالـمُعَلاَّة رحمه
الله". انتهى نصُّ الحموي.
•
اسمه :
للأسف
وعلى غير عادة المؤرخ الحموي لم يذكر لنا سوى اسمه الثنائي "عبدالله بن نظام
الدين"، وليست هذه الألقاب المركبة ببعيدة عن علماء نجد، فقد ذكر ابن ناصر
الدين الدمشقي في (توضيح المشتبه) (ج٥-ص٣٨) من اسمه وليّ الدين سالم بن نافع بن
رضوان النجدي الحنبلي (كان حَيّاً ٦٣٥هـ).
•
النسبة إلى نجد :
ونلاحظ
أن الحموي وسمه بالنجدي السكن، نسبةً لسكنه في بلاد نجد، وأكد ذلك بقوله:
"أحد الشيوخ المشهورين ببلاد نجد"، ودل على إقامته بنجد قوله "قدم
مكة"، وقوله: "وأقام مدة بمكة"، أي أنه من الوافدين إلى الحجاز من
الأقطار.
•
محل ولادة المترجم:
أما
نسبة "الفُرْسي" فيبدو لي والله أعلم أنها نسبةً إلى وادي الفُرْس، أو
كما تسميه العامّة اليوم الفِرْس، قال ياقوت في (معجم البلدان) (ج٤-ص٢٨٤ رقم
٩١١١) : "الفُرْسُ: بضم الفاءِ وقيل بكسرها، والسين مهملة، وادٍ بين المدينة
وديار طيء على طريق خيبر بين ضرغد وأول"، وقال الشيخ حمد الجاسر في (معجم الجغرافي
للبلاد السعودية شمال المملكة) (القسم٣-ص١٠٣٣) بعد أن ساق كلام ياقوت:
"وأقول: الفِرْس بالفاء المكسورة بعدها راءٌ مكسورة، وادٍ يقع شرقَ ضُرَيغد
مسراح الغنم، وبقربه أَوْل، وهذا ينطبق تمام الانطباق على ما ذكره ياقوت، وهذا
الوادي ينحدر من جبل اسمه الْفِرْس، ومن جبل أَوْلٍ وما حولهما، ويتجه جنوباً،
ويجتمع مع أوديةٍ كثيرة تفيض كلها في وادي الرُّمَّة شرق الحُليفة، وشرق بئر
مَعْرش"، وفي هذا ما يثبت ولادة المترجم بنواحي الجزيرة، وأنه ليس وافداً
إليها.
•
نسب المترجم :
أما
قوله: "الأشتري" فيحتمل أنه نسبةً لمالك بن الأشتر النخعي، من بني النخع
بن عمرو من مذحج القحطانية، لكن المشتهر عنهم أنهم نزلوا الكوفة، وينتسب لهم اليوم
قبيلة بني مالك العراقيَّة، ويحتمل أنه نسبةً لغيره، والأشتر في لغة
العرب مشقوق الشفة السُّفلى.
منقلب
جَفْن العين، ولم أجد من رفع هذه النسبة، وراجعت لها (معجم قبائل العرب)
لعمر رضا كحالة وهو من أوسع ما كتب في نسب القبائل فلم أجدها، وراجعت له ((معجم
قبائل الجزيرة العربية)) للشيخ حمد الجاسر فلم أجدها أيضاً.
•
مذهب المترجم الفقهي:
عاشت
نجد في ظل تطورات مذهبية ابتدأت بالخروج والتشيع وانتهت بالمالكية والحنبلية !
فظهر
الخوارج باليمامة إبان العهد الأموي، وتأسست دولة الأشراف بني الأخيضر منتصف القرن
الثالث الهجري في الخضرمة، وهم شيعة زيدية كما يقول ناصر خسرو (ت٤٨١هـ) في (سفرنامه) وقد كان مروره على نجد في القرن الخامس الهجري وتحديداً عام (٤٤٢هـ).
قال
ابن عقيل الظاهري: "ففي الشرق من سقوط دولة الأخيضريين إلى سنة 1331 ارتبطت
نجد في أغلب الأحيان بالقرامطة، وآل عيوني، والأمراء من بني مالك بن عامر بن عقيل،
وأجود بن زامل العقيلي الجبري، والأتراك وآل حميد، وكل هذه الدول مركزها الأحساء،
وفي الغرب دولة الأشراف في الحجاز".
وهكذا
بدأت التبعية الفكرية النجدية للمؤسسات السياسية خارج نجد، فعندما استولى القرامطة
على الجزيرة العربية؛ وهم إسماعيلية باطنية، دانت لهم نجد، وصار أعراب الجزيرة
عماد جيش الفاطميين في حروبهم، إلى أن ظهرت الدولة الجبرية فسيطرت على الأحساء والبحرين
والقطيف ونجد وعُمان، وهي دولة مالكيَّة، واحتفى ملكها أجود بن زامل الجبري
(ت٩١١هـ) بفقهاء المالكية ووصفه عبدالباسط الملطي (ت٩٢٠هـ) (المجمع المفنن)
(ج١-ص٢١٧ ترجمة ٢٥٣) بالنجديِّ الأصل، وأنه مغرم بتحصيل كتب المالكية، وأنه ولَّى
الفقهاء من أهل السنة القضاء، بعد أن كان يتولاها الشيعة، كما وسمه السمهودي حسب
نقل السخاوي عنه في (الضوء اللامع) (ج١-ص١٩٠) بـأنه "صار رئيس نجد".
وفي
تلك الفترة كان هناك بعض فقهاء الحنابلة من النجديين كأحمد بن يحيى بن عطوة
(ت٩٤٨هـ)، وأحمد بن إبراهيم بن أبي حميدان، وقد أوقفا كتبهما على مدرسة صالحية
دمشق، ويرى الباحث عبدالرحمن الشقير أن سبب ذلك هو قلة الحنابلة في نجد آنذاك.
كما
ظهر من الحنفية الشيخ راشد بن خنين (كان حيّاً ١١١٩هـ)، وقد رجَّح ابن بسام في (علماء نجد) أنه مالكيُّ المذهب، وعضده د.عبدالله العثيمين في بحثه (نجد منذ
القرن العاشر) عندما أشار إلى أنه لا حنفية في نجد أبداً، ووافق هذا القول الباحث
عبدالرحمن الشقير في بحثه (المذهب الحنبلي في نجد دراسة تاريخية) (مجلة الدارة
ع١ السنة٢٨)، وقد ظهر ضعف هذه الأقوال وثبوت تمذهبه بالمذهب الحنفي بعد أن نشر
الباحث عبدالعزيز البراك بحثه (جريدة الجزيرة، صفحة وراق الجزيرة ١٧-٧-٢٠١١) عن
الشيخ راشد بن خنين وأثبت من خلال الوثائق أنه حنفي المذهب.
وبالنسبة
للمذهب الشافعي فذكره في نجد نادر، حتى جزم الباحث عبدالرحمن الشقير أن حسين بن
عثمان بن زيد الذي ذكر ابن منقور في (مجموعه) (ج١-ص٢٢٣) أنه تحول من الحنبلية
إلى الشافعية هو النجدي الشافعي الوحيد.
وبظهور
هذه الترجمة التي نتناولها الآن نستطيع أن نقول أن مترجمنا هو ثاني اثنين حسب ما
اطلعنا عليه.
•
تصوُّفُ المترجم:
يذهب
الدكتور عبدالعزيز العبداللطيف في رسالته (مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل
الدعوة الإصلاحية) في مبحث التصوف عند علماء نجد إلى أن التصوف في نجد قبل دعوة
الشيخ محمد بن عبدالوهاب هو تصوف خرافي، مشوب ببعض العقائد الفاسدة، لكنه لم يصل
إلى اعتناق الطرق الصوفية، ولبس الخرقة ونحوها، وتأتي هذه الترجمة لتثبت العكس!
وأن من علماء نجد -قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- من التزم بطريقة صوفية، وهو
مترجمنا إذ ذكر الحموي أنه "نقشبندي المشرب"، وقال أيضاً: "أحد
مشايخ الطريقة، وأصحاب الدعوة، الملازمين للأذكار والرواتب".
وإلى
جانب نقشبنديَّة مترجمنا النجديّ فقد سجل الحموي نصّاً في استعانته بغير الله
تعالى، والاستغاثة والتعلق بالأموات من الصالحين وغيرهم، مما هو من الشرك الأكبر
نسأل الله السلامة والعافية، قال الحموي: "وكان في أغلب أحواله بالمراقبة،
متمسكاً بدائرة رجال الغيب، والاستعانة بهم في كل وقت، والتوجه إليهم حيث كانوا،
لذلك تمّ له النَّفَسُ".
•
علاقته بمكة والأشراف:
يذكر
الحموي إجلال السادة الأشراف الحسنيين للمترجم، حتى أنه رأى بعضهم يخدمه بنفسه،
وآخر قدومٍ قدمه المترجم لمكة سنة (١١١٣هـ)
وكان
حظياً عند أميرها، قال : "وحصلت له العزة العظيمة عند شريف مكة".
وشريف
مكة في العام الذي جعله الحموي آخر عام قدمه المترجم لمكة (١١١٣هـ) هو الشريف سعد
بن زيد، وظل أميراً حتى شهر شوال، وهي ولايته الثالثة التي ابتدأت منذ شهر ربيع
الثاني عام (١١٠٦هـ)، وفي شوال من عام (١١١٣هـ) صار منصب شريف مكة من نصيب الشريف
سعيد بن سعد للمرة الثالثة حتى ربيع الأول من عام (١١١٦هـ)، فربما يكون المقصود هو
الشريف سعد بن زيد، والله أعلم.
•
وفاته :
توفي
المترجم بمكة، ودفن في مقبرة المعلاة، وشكّ الحموي في سنة وفاته فقال: "ثم
توفي بمكة لعلَّهُ سنة سبع عشرة بعد الألف ومائة، ودفن بالـمُعَلاَّة رحمه
الله".